الأحد، 29 يناير 2012


بعد أن قدم دكتور صلاح الدين سلطان في الجزء الأول من الدراسة, امتيازا وإنصافا للمرأة على الرجل في قضية الميراث وتوضيحه بأن هناك ثلاثين حالة ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، أو مثله، أو ترث هي ولا يرث، مقارنة بأربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل، وبما يكتم أصوات المنادين بظلم الإسلام للمرأة في الميراث , نجده يقدم إنصافا وامتيازا إسلاميا آخر للمرأة في قضية النفقة، ولتوضيح حق المرأة في النفقة في الشريعة الإسلامية , قسمها على ثلاث مباحث:المبحث الأول: حق البنت في النفقة في الشريعة الإسلامية।المبحث الثاني: حق الزوجة في النفقة في الشريعة الإسلامية.المبحث الثالث: حق الأم في النفقة في الشريعة الإسلامية.أولا حق البنت في النفقة في الشريعة الإسلامية:هناك أدلة كثيرة حول وجوب نفقة الأولاد على أبيهم في الشريعة الإسلامية, وما يؤكد ذلك في صحيح البخاري"خذي وولدك ما يكفيك بالمعروف "ويؤكد الكاساني هذا المعنى الدقيق ووجوب النفقة على الوالد فيقول "الإنفاق عند الحاجة من باب إحياء المنفق عليه والولد جزء من الوالد وإحياء نفسه واجب, كذا إحياء جزئه"كذلك اختص الإسلام البنت على الذكر في الإنفاق, فإذا كان جمهور الفقهاء قد نص على وجوب النفقة على جميع الأولاد ذكورا وإناثا, فهناك ثمة خصوصية للإناث دون الذكور، وفي هذا ظهر اتجاهين:الاتجاه الأول: النفقة على البنت حتى تتزوج، وعلى الولد حتى يبلغ أو يكتسب.ومن هؤلاء ما ذكره ابن الهمام الحنفي بأن الأحناف يرون أن ينفق على الذكر حتى يبلغ حد الكسب وإن لم يبلغ الحلم، وليس للأب ذلك في الأنثى؛ لان عليه نفقتهن حتى يتزوجن, وليس له أن يؤاجرهن في عمل أو خدمة ولو كان لهن قدرة على ذلك, وأضاف بأن المرأة إذا طلقت وانقضت عدتها, عادت نفقتها على الأب.الاتجاه الثاني: لا فرق بين الذكر والأنثى في النفقة.فيرى بعض الفقهاء أنه لا فرق بين الذكر والأنثى في النفقة، ويمثل هذا الاتجاه الحنابلة والظاهرية والشيعة الزيدية، ويردون على الحنفية التي ترى بأن الإنفاق على الذكر حتى يصبح قادرا على الكسب والأنثى حتى تتزوج؛ بأن النصوص عامة في وجوب المواساة، والمساواة في الإنفاق بلا فرق بين ذكر وأنثى.وبعد عرضه للاتجاهين, أوضح الدكتور صلاح الدين سلطان ترجيحه للاتجاه الأول، ويرى أن الإنفاق يجب أن يكون على الذكر حتى يصبح قادرا على الكسب، وينقطع هذا الوجوب ويجب الإنفاق عليه إذا كان مريضا مرضا مقعدا عن العمل ، أو كان طالب علم أو تعلم ولم يجد، وعند أبيه ما يسد, أما الأنثى، فيظل الإنفاق عليها واجبا شرعيا حتى تتزوج، وينتقل عبء كفالتها إلى الزوج, ولا مانع من أن تعمل المرأة في عمل يتناسب مع أنوثتها وواجباتها, مع العلم بأن بحثها عن عمل والتكسب منه، لا يكون واجبا مثل الذكر.ثانيا: حق الزوجة في النفقة في الشريعة الإسلامية:هناك أدلة كثيرة على جوب النفقة للزوجة على زوجها منها ما يلي:قوله تعالى "وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" وهذا يدل على زيادة النفقة للزوجة إذا أرضعت، رعاية للأمومة والبنوة معا، وعدم ترك المرأة تعاني من الضعف والهوان؛ لكثرة ما تؤدي وقلة ما تأخذ, وكذلك قوله تعالى "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ"وما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة"وهذه النصوص وغيرها جعلت القضية موضع اتفاق بين جمهور العلماء والفقهاء، بوجوب إنفاق الزوج على زوجته.مقدار النفقة الواجبة للزوجة على زوجها: وتنقسم إلى فرعينالفرع الأول: هل يراعى حال الزوجة أو الزوج أو كليهما معا في تقدير النفقة؟فإن أجمع الفقهاء على وجوب النفقة فقد ظهر الاختلاف في تحديد مقدار هذه النفقة وهل يراعى فيه حال الزوجة أو الزوج أو كلاهما معا, فمن قال يراعى فيه حال الزوج فقط نظر إلى قوله تعالى "لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قٌدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا"ومن قال يراعى حال الزوجة نظر إلى قوله تعالى "وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"ومن نظر إلى حال الزوج والزوجة جمع بين الدليلين وعمل بالنصينوبعيدا عن تحديد مقدار النفقة للزوجة فقد اشترطت جميع الآيات التي تحدثت عن وجوب النفقة للزوجة "المعروف" والمعروف يتعلق بحقهما معا وليس من المعروف أن تكون نفقة الغنية مثل نفقة الفقيرة كما قال القرطبي، وقال في موضع آخر"والمعروف هو المتعارف عيه من غير إفراط ولا تفريط"الفرع الثاني: جوانب النفقة للزوجة: إذا كان الاختيار في تحديد النفقة أن يراعى حال الزوجين معا, فإن الفقهاء قد حددوا معالم وجوانب واضحة تجب للزوجة في النفقة وأهم هذه الجوانب ما يلي:- سكن الزوجية: وحدد الفقهاء سكن الزوجية بمجموعة من الخصائص والمواصفات نذكر منها ما يلي:· أن يكون سكنا خاصا بالزوجين فقط.· أن يكون سكنا واسعا لو قدر الزوج عليه.· أن يكون سكنا في مكان غير موحش.· أن يكون السكن بين جيران صالحين.· أن يكون السكن ذا تهوية جيدة.· أن يكون سكنا مناسبا للزوجة.- الطعام والشراب: ويشترط في الطعام والشراب ما يلي:· أن يكون كافيا: وفي هذا يقول ابن قدامة "هي نفقة قدرها الشرع بالكفاية" وذكر العاملي أنه يجب على الزوج أن يسد جوع زوجته حتى يغنيها عن الطلب ولو كان من بيت أبيها أو أمها أو أقاربها· أن يكون متنوعا: فليس للزوج أن يقدم طعاما كثيرا من نوع واحد مدعيا أن فيه الكفاية- الكسوة: جاءت النصوص في القران الكريم والسنة صريحة على وجوب الكسوة للزوجة على زوجها وحدد الفقهاء كسوة الزوجة على النحو التالي:· حدد البعض للزوجة كسوة للصيف وأخرى للشتاء تليق بمثلها.· وأوجب البعض للزوجة كسوة النوم في الليل وأخرى للمنزل وأخرى للصلاة, وأخرى للخروج ويشترط في الأخيرة أن تكون أثوابا مستوفية للشروط الشرعية وأن تكون غير شفافة وتناسب نظائرها- أدوات الزينة والنظافة: من الحقوق الواجبة للمرأة, أدوات الزينة والتجميل, فيقول ابن قدامة "ويجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها وغيره مما تغسل به رأسها, وما يعود بنظافتها لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه "وهنا يفرق الفقهاء بين ما يجب على الزوج من أدوات النظافة من صابون للشعر, أو الجسم أو السوائل الخاصة بغسيل الشعر والمشط والدهن من الكريمات وغيرها, وبين ما هو اختياري للرجل مما يُراد لمزيد من التلذذ والمتعة من المساحيق وسوائل الأظافر, فإن احتاج إليه يلزمه وإن لم يحتج إليه فلم يلزمه الإتيان به .- الخادم: ويرى جمهور الفقهاء أن المرأة يجب لها خادم بشروط:1. إذا كانت المرأة ممن تخدم في بيت أهلها.2. إذا كان الزوج موسرا يستطيع أن يأتي لها بخادم.- أشياء أخرى: وقد ذكرت النصوص من القران والسنة أشياء تجب للمرأة في حالات معينة ونص الفقهاء على أشياء أخرى تدخل في دائرة المعاشرة بالمعروف, وحسن التعامل مع الزوجة ومنها ما يلي:1. العناية بالحمل والرفق بها لقوله تعالى "وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ"2. العناية بالمرضعة لقوله تعالى "وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"3. أجر الولادة: فعلى الزوج أن يتكفل برعاية الأم وجنينها ثم وليدها.4. الغسالة: على الزوج أن يأتي لزوجته بغسالة وتختلف حسب وسع الزوج أو عسره, والآن يوجد ما يغسل هذه الثياب فيغني عمن تغسله لها.ثالثا: حق الأم في الشريعة الإسلامية:هناك أدلة تؤكد وجوب النفقة على الأم في الشريعة الإسلامية، منها قوله تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" وقوله أيضا "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ"وما رواه البخاري في سنده عن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال الصلاة على وقتها, قال ثم أي؟ قال بر الوالدين, قال ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله.وتوجد جوانب تختص بها الأم في النفقة دون الرجل منها أن نفقة الأولاد توجب على الأب دون الأم ولو كانت موسرة , وقد بالغ ابن حزم في تقرير هذا المبدأ حتى خرج عن حد الاعتدال فقال: يجبر الرجل دون المرأة على نفقة الولد الأدنى الذكر حتى يبلغ فقط, وعلى البنت الدنيا حتى تتزوج فقط, ولا تجبر الأم على نفقة ابنها ولو مات جوعا وهى في غاية الغنى "وعلى هذا الأساس إن أخذت الأم بهذا المبدأ فهي تأخذ بالأحكام, ويختلف الباحث مع هذا الرأي, ويرى أن من كانت غنية وزوجها بخيل في الإنفاق على ولدها أو كان فقيرا, فالأولى أن تأخذ بما قاله الكاساني الحنفي بأنها تؤمر بالإنفاق عليه, وتستوفى من الأب إن كان قادرا, أو عند الميسرة إن كان فقيرا, وهذا ما يتوافق مع فطرة الأمومة والأحكام الشرعية.كما تختص الأم بمزيد من البر على أولادها أكثر من الأب, والأصل في هذا ما رواه البخاري ومسلم "أن رجلا سأل النبي من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال "أمك" قال ثم من؟ قال "أمك" قال ثم من؟ قال "أمك" قال ثم من؟ قال "ثم أبوك".وعلى هذا , إذا كان الابن معه قليل من المال فعليه أن يواسي الأم والأب معا, وإن أعطى الأم أكثر كان أولى, ولا يحرم الأب من العطاء, ويبدوا أن حب الأم شيء فطري مرتكز في النفوس, وهذا من الأدلة الواضحة على تكريم الله تعالى للأمومة ودورها في تربية الأجيال, وبما تستحق عليه مزيدا من البر.

ليست هناك تعليقات: