الأحد، 13 ديسمبر 2009

مانديلا ... الصقر الجريء الذي حطم جدران العنصرية



" أنا لا اقبل حريتي بشروط, فحريتي جزء من حرية شعبي فلا معنى لحريتي طالما أن الشعب لم يحصل على حريته " بهذه الكلمات رد " ماديبا العنيد " أو نلسون مانديلا من خلف قضبان زنزانته على السلطات الجنوب افريقية عندما عرضت عليه الإفراج عنه مقابل عدم اشتراكه في أي نشاط سياسي..... وعندما سألته ابنته الكبرى لماذا اخترت طريق النضال قال " أن هذا الطريق هو الذي اختارني " وهو أيضا القائل " النضال هو حياتي "

إن الحديث عن صاحب هذه الكلمات والاقتراب من شخصيته أشبه بالحديث عن الشخصيات الأسطورية القادمة من أعماق التاريخ فهو بطل ومناضل إفريقي وهب حياته لأجل حرية شعبه ولتحقيق العدالة لأغلبية السوداء , والتي عاشت اعنف حركة عنصرية شهدها التاريخ كما أحببت الحديث عنه بمناسبة الاحتفالات التي تشهدها جنوب إفريقيا باستقبال المونديال فالفضل في هذا الموضوع يرجع لمانديلا الذي يعشق الحرية والنجاح في كافة المجالات فهو الذي طاف بلاد العالم للحصول على أصواتها لفوز بلاده باستقبال مونديال 2010وبالفعل فازت جنوب إفريقيا



فمن هو مانديلا الذي قضى في السجن سبعة وعشرين وستة اشهر وستة ايام وكيف وصل إلى نهاية طريقه الطويل للحرية ؟؟؟؟


كان صيف يوليه 1918على موعد لميلاد مانديلا وذلك بقرية " ترانسكي " بجنوب إفريقيا والتي يقطنها الزنوج وقد عرف عنه منذ طفولته العناد والمشاكسة وإثارة المشاكل ولم يكن ذلك غريبا عليه فإذا ترجمنا النصف الأول من اسمه سنجد معناه العنيد ’ أضف إلى ذلك انه ورث الثورة والتمرد عن والده الذي ضحى بوظيفته كمستشار لسلطان الكوسا حينما رفض أوامر الحكم الأبيض حتى لا يتجاوز تقاليد القبيلة , من هنا كانت نشأته الاجتماعية وشخصيته الفريدة والتي أدرك من خلالها حجم التفرقة العنصرية التي يعانيها السود وعندما أرسل فيما بعد إلى مدرسة الإرساليات درس تاريخ أجداده ورأى كيف أن كتب التاريخ مدنسة بشوائب الاوربييين ومفاخرهم الكاذبة فامتلأ قلبه بالتمرد والرفض ومن هنا ظهر شغفه بالمحاماة


ويلات التفرقة العنصرية

وكانت التفرقة العنصرية وويلاتها حائلا دون مواصلة الدراسة إلى أن صدر قرار يفيد بان هذه الكلية التي يدرس بها أصبحت للسود فقط فواصل دراسته وتعرف على صديق عمره " اوليفر تابو" وأثناء الدراسة نظم مانديلا مقاطعة للانتخابات الطلابية وعندما طلبت منه السلطات إنهاء المقاطعة رفض , فقررت عدم إكمال دراسته فأظلمت الدنيا أمامه ولم يجد سوى عمه _ الوصي عليه بعد وفاة والده _
حبا به عمه واختار له زوجة من بنات القبيلة ولكنها كانت بدينة وغير مناسبة للمناضل فهرب إلى " جوهانسبرج"وهناك أدرك التفرقة العنصرية في أحط معانيها ووجد أن الجميع يحتاج إلى التحرير بيضا أو سودا بل لقد كان البيض في حاجة إلى التحرير أكثر من السود

وفي جوهانسبرج عمل ماديبا كشرطي وارتدى الزى الرسمي وحمل صفارة وبندقية ولم يثنه هذا العمل عن قضية حياته, وكنتيجة لكثرة اعتراضاته على تصرفات البوليس الأبيض تم سجنه ثم طرده من العمل وبعد الخروج من السجن اتجه لدراسة الحقوق لكي يعد نفسه للطريق الصعب وأثناء الدراسة تعرف على ممرضة تدعى " ايفلين فنكوماس " فتزوجها وكانت تنفق عليه من أجرها .....نعم لقد كانت هذه الممرضة هي الحضن الدفيء الذي عانق أحلام المناضل للمرة الأولى
بعد إنهاء دراسة الحقوق حدد صداقته مع رفقاء الكفاح " تامبو ووالترسيزيو " الذي رافقه في النضال لمدة 61 عاما ومعهم كون رابطة الشباب وبدا نجمه يسطع وما لبث أن انتخب رئيسا للرابطة عام 1951والتي اصطدمت
مع السلطات الأمنية كثيرا فأصبح هدفا للبوليس وأثناء إلقاءه لإحدى خطبه النارية في جوهانسبرج تم القبض عليه ووضع الأغلال في أيديه واقتادوه إلى السجن ولم يزده السجن إلا قوة وصلابة فالصقور لا تعرف اليأس وبعد الخروج من السجن ظل يناضل مؤمنا بقضية وطنه وشعبه حتى القي القبض عليه مرة أخرى في ديسمبر1956بتهمة الخيانة العظمى وقلب نظام الحكم وذلك عقب أحداث شغب قام بها المتمردون السود

في سبيل الحرية لم يدرك مناضل إفريقيا وأبو الشعوب السوداء أن الأمر سينتهي به إلى السجن مدى الحياة فقد استمرت محاكمته أربعة سنوات لأنه رفض تنفيذ قوانين الفصل العنصري وأمام المحكمة تولى الدفاع عن نفسه واستطاع الحصول على البراءة في مارس 1960 إلا أن البوليس استمر في التحرش به فانضم إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وسرعان ما أصبح من ابرز الأعضاء النشيطين في هذا
الحزب المحظور ورأى مانديلا أن يحمل قضيته خارج البلاد فتمكن من العبور إلى بتسوانا ومنها إلى أديس أبابا حيث كان يعقد هناك مؤتمر حركة تحرير شرق ووسط إفريقيا وفي الخامس من أغسطس 1962 تم اعتقاله وانتهى هذا الاعتقال بالسجن مدى الحياة

لم يغير السجن من مانديلا شيئا بل على العكس زاده صلابة وشدة وعزما فثار على الأوامر ورفض التعليمات وتعرض للعقاب والسجن الانفرادي ولم يتركه السود يعاني ويلات الحرب وحده ولكن كانو يؤازرونه من الخارج وبالتالي لم يتوقف النضال لان المناضل كان قد أشعل نيران الغضب وفي عام 1985 رأت الحكومة أن إطلاق سراح مانديلا فيه تجنب للكارثة وحقن دماء الأثرياء في جنوب إفريقيا فأعلن رئيس الوزراء " ابوثا " أمام مجلس العموم أن حكومته على استعداد لإطلاق سراح مانديلا بشرط التزامه بعدم إثارة الشغب أو الحث على المظاهرات أو العمل من اجل أهداف سياسية وكان سهلا على مانديلا أن يلبي طلب الحكومة ويتخلص من سجنه المؤبد إلا أن الشعب فؤجيء برد المناضل الذي رفض أن يحصل على حريته بشروط ورأى أن حريته جزء من حرية شعبه فلا معنى لحريته طالما أن الشعب لم يحصل عليها ولهذا الرد ازدادت شعبية مانديلا وشهرته وأصبح اشهر مناضل سياسي في العالم وتحول من مناضل عادي إلى رمز للنضال والكفاح


أشواك الطريق ووروده
كان مانديلا قبل دخوله السجن قد انفصل عن زوجته الأولى الممرضة وارتبط بزوجة أخرى وهي ويني مانديلا والتي أنجب منها ابنتين ونظرا لطول فترة سجنه تعرض هذا الزواج للعديد من العقبات وبعد أن أعلن عن الإفراج عنه في 15 فبراير 1990 بقرار تاريخي من آخر الرؤساء البيض لجنوب إفريقيا " دي كليرك " وجد زوجته متورطة في العديد من الأعمال المنافية للقانون فانفصل عنها وظل يناضل وحده , أيضا بعد الخروج من السجن لم يكن الطريق مفروشا بالورود , ففي أول خطاب له دعا شعبه إلى تكثيف الكفاح المسلح على جميع الجبهات حتى تحقق له حلم الانتصار واستطاع أن يكسر الحاجز اللوني للعنصرية

ولم يكن غريبا بعد هذا المشوار الكفاحي الطويل أن يفوز مانديلا بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع دي كليرك عام 1993 ’ وفي عام 1994 اكتمل حلم مانديلا وشهد هذا العام أول انتخابات عامة ضمت جميع السكان دون تفرقة وشهدت يوما حفر في التاريخ , عندما اتخذ المشرعون السود أماكنهم الأمامية في صفوف البرلمان وتم انتخاب مانديلا كأول رئيس اسود للبلاد وعندما فاز بهذا المنصب كان عمره حينها 75 عاما وانحنى وقتها للبيض الذين حكموا بلاده

وفي عام 1998 وبقرار شجاع تزوج المناضل الأسود سيدة أفريقيا الأولى أرملة المناضل الإفريقي " سامورا ميشيل " رئيس موزنبيق الراحل , نعم كان لابد من زوجة امرأة .... شاطئا آمنا يلقي عليه أتعابه وأحماله وظل مانديلا رئيسا لجنوب إفريقيا حتى 15 يونيو 1999عندما فاجأ الجميع وسلم الحكم لنائبه بعد فترة رئاسية واحدة , ضاربا بذلك أروع الأمثلة في الديمقراطية و, ويا ليت حكامنا العرب يتعلمون هذا الدرس من ماديبا العنيد الذي لم يستعبده كرسي السلطان وبريق الحكم


مواقف لا ينساها التاريخ
ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر موقف مانديلا من الاحتلال الأمريكي للعراق فقد رفض هذا الاحتلال وهاجمه بشدة وقال " لن أقابل بوش إذا جاء جنوب أفريقيا لأنه رجل مارق يرأس نظاما مارقا , كذب على العالم واحتل العراق ... يختلق الأكاذيب "
وقد وفى مانديلا بوعده ولم يقابل بوش عندما زار بلاده مع العلم أن هناك طابورا طويلا من الزعماء العرب والعالم الإسلامي كانوا يقفون دائما في قائمة انتظار السيد بوش

وبعد احتفال ماديبا المناضل الإفريقي بعيد ميلاده السادس والثمانين قرر الابتعاد عن مسرح الأحداث قائلا " بعد أن أتممت عامي السادس والثمانين اشعر الآن بثقة من انه لا احد سيتهمني بالأنانية إذا طلبت أن اقضي بعض الوقت وأنا في صحة جيدة مع أسرتي وأصدقائي وكذلك مع نفسي